top of page

الفقد..!

بقلم: سلطان المنصوري وأفنان المبارك


كنت خارجاً من عملي في أول يوم بعد انتهاء الإجازة، سحبت جوالي من جيبي واتصلت بجوال أمي.. وفي لمحة عين.. قطعت خط الاتصال.. وكنت ضاغطا بقوة على الجوال في قبضتي.. تذكرت وقتها أن أمي ماتت في الإجازة ....


الكتابة عن الفقد مخاض متعسر، نزيف و استنزاف ، أنتَ تحوّل نزيفك الداخلي والألم الذي يعتصرك الى كلمات جامدة، و أحرف صماء ، لا روح فيها.

تجارب الفقد، تحيطها هالات من القداسة، بتفاصيلها و ذكرياتها الموشومة في قلوبنا. حين نبوح، تتلاشى المهابة و تصبح حكايتنا عابرة و فاترة، لذا نرنو إلى الصمت، والتظاهر أننا بخير، وأنّ كل شيء على ما يرام حتى لا تفقد قصتنا عظمتها و من ثَمّ تصبح مجرد حكايات تروى على كل لسان.

الفقد يصعب على التصديق ،،

و مهما تحدثنا أو كتبنا أو صرخنا فإننا لن نستطيع ترجمة الاحاسيس المعصورة في دواخلنا، لأن المشاعر عصية على الترجمة.

وكم كان صادقاً نجيب محفوظ.. لما قال إنه "أكثر ما يوجع في الفراق أنه لا يختار من الأحبة إلا الأجمل في العين والأغلى في القلب".

لأنه في هاللحظة يصبح الفقد أشد وجعاً.. لأنك تشعر أن ما تملك في يدك تسرّب منها وتلاشى.. أن الجسد اللي كان جنبك.. العيون اللي كانت تشوفك.. الروح اللي كانت ترافقك.. والأيادي اللي كانت تدعي لك.. كلها انتهت.. انتهت بمعنى الكلمة..

ارتحال الأرواح والأجساد عنك نهائياً ليس ناعماً على روحك.. هو ارتحال ينثر كومة دبابيس حادة وشرسة على قلبك.. تُضعِفُ نبضك.. وتبطء نَفَسَك.. هو هجومٌ شرس من الحياة تجاهك.. اختطافٌ لا فدية له.. أو كما قال ويليام شكسبير: "ساعاتنا في الحب لها أجنحة، وفي الفراق لها مخالب".

قد يكون في تجارب الاخرين سلوى لك، إننا غالباٍ ما نشعر بتحسن اذا أدركنا أننا لسنا الوحيدين، وأن الكثير من الأشخاص خاضوا تجارب مماثلة، ويشاركوننا الشعور!

أن تفقد شخصاً عزيزا يعني أن يتلاشى جزء من روحك، أن يتزلزل كيانك ووجودك، و يجعل بقاءك من بعده بلا معنى!

أن تفقد محبوباً يعني أن تستيقظَ في الصباح، وأنت لا تتوق لشيء ولا ترغب بأي شيء.. أن يكون روتينك من الأعمال اليومية والأحاديث العابرة والمجاملات الاعتيادية، والإصغاء إلى تفاصيل حياة الآخرين شاقّة ومُضنية. أنتَ فقط تريد لهذا اليوم أن ينتهي حتى يحين وقت النوم لتفقد إحساسك بكل شيء، هذا الشعور المرهقٌ و الثقيل يُعرف ب"الاكتئاب".

يحكي صديقي عن جدته.. بأن لها دعوة تهديها له سنوات طويلة.. كانت هالدعوة "الله يوفقك في كل سطر".. وكان يواصل دراسته.. ويسافر كثير.. وبعد مرضها المتكرر ودخولها للعناية المركزة لمدة 4 أشهر.. كان معها لأوقات طويلة.. حتى خارج أوقات الزيارة.. يتسلل لها آخر الليل.. أو أول الفجر ويشوفها.. وفي كل المرات اللي كان يشوفها ويلمس يدها.. كانت تقبض على يده.. تمسك يده بقوة لدرجة صعبة في الإفلات منها.. مسكة التعلق.. مسكة الحب.. المسكة اللي تخليه يرجف من داخل روحه أكثر من الشيء اللي ممكن يظهره.. وفي يوم اتصلوا عليه بعد الفجر وأخذ أمه وراح لهم.. راح وهو عارف إن الأمر انتهى.. دخل وشاف الكل ملتف حولها.. أول شيء سواه إنه مسك يدها.. كانت بييييييييضاء جداً بدون قطرة دم واحدة داخلها.. لكن الموجع أكثر.. إنها في هاللحظة ما مسكت يده.. اليد مفرودة تماماً وما تقبض على يده.. مسكها أكثر.. وانتظر لكن ما مسكته.. وقتها آمن فعلاً إنها رحلت.. وهو اللي قفل عيونها..

صور يدها وهي تمسك يده.. هي اللي بقيت له مع الذكريات.. لكن هالصور نافذة للوجع كل ما أبصرها.. وكأن الصور تعرض لك مدى خسارتك.. وهنا نتذكر مقولة المصورة الأمريكية "نان قولدين"

“I used to think that I could never lose anyone if I photographed them enough. In fact, my pictures show me how much I’ve lost.”

اللي كانت تتوقع إنها كل ما صورت شخص كثير ما راح تخسره، لكن في الواقع الصور كانت تظهر لها حجم خسارتها.

في حياتنا نلاحظ إن الفقد أنواع.. إما يكون رحيل شخص من المساحة المجاورة لك.. أو مغادرة أحدهم للحياة كلها.. الرحيل القاسي والمُر لأرواحنا بمعنى الموت كان حكاية الدقائق الأولى.. الرحيل الآخر هو فعل يقوم بنخر روحك.. بثقب قلبك ملايين المرات لأنه شيء موجود وتفقده..

وهنا تقول الروائية رضوى عاشور: "هذه النجوم في السماء هي أرواح أحبابنا الذين ذهبوا، نارها عذاب الفراق، ونورها شوق الوصل والتلاقي."

إن ما ستمر به من المشاعر من حزن و أسى و كآبة، قد تتكثف أحيانا و تصبح خانقة ، و قد تشعر أنها تفوق قدرتك على الاحتمال. لكن ما أودّ قوله أن جميع هذه الأحاسيس طبيعية و سوية تماماً، إنها مسألة وقت لا أكثر، فقط تذكر، هذا الوقت سوف يمضي.

This too shall pass. It might pass like a kidney stone, but it will pass .

لكن هل يمر هذا الفقد بين المحبين بسهولة تامة؟ هل يمكن أن يكون الفقد مجرد مادة سائلة تسير في أنابيب حتى تجف أو تصب في محيط شاسع فيتلاشى الأمر كله؟

لا، الفقد خطيئة لها قطبين، وسببها التراكمات التي لم نهدمها كل يوم، كل زعل، كل التواءة مزاج، كل اعتصار ألم.. وطالما هذا السبب، كانت النتيجة.. وكما تقول غادة السمان: "كانت القسوة خطيئتك وكان الكبرياء خطيئتي وحين إلتحمت الخطيئتان كان الفراق مولودهما. "

ولكل أنواع الفقد، الموت، والخسائر البشرية في الحياة كانت أدوات للتشافي من هذا الفقد، من هذا الإحساس الغائر في القلب كبركان. تحكي باولا في كتاب "لماذا نكتب" ونقتبس هنا "لقد أنقذ هذا الكتاب حياتي. فالكتابة هي تفحص طويل لأعماق النفس، رحلة إلى أشد الكهوف عتمة، و تأمل بطيء. إنني أكتب متلمسة في الصمت، وأكتشف في أثناء الطريق أجزاء من الحقيقة، نتفاً صغيرة من الزجاج تتسع لها راحة اليد و تبرر مروري في هذه الدنيا".

ومن التجارب أيضاً، ما كانت تقوم به كارين وايت بعد رحيل والدها، تركت كارين عملها كطبيبة وقررت الانضمام إلى مأوى لرعاية المحتضرين، ثم وجدت أن لديها القدرة على الاستشفاء من الفقد بواسطة الكتابة.. نعم الكتابة..

تقول كارين "لقد كان من الصعب إيجاد شخص أعبّر له عن طبيعة ما أشعر به، فكانت الكتابة بديلا مناسباً، واخترتُ أن أفضفض للورق. لقد كانت الكتابة عزائي ومُنقذي بعد رحيل والدي، كنت أدون يومياتي و في بعض الأحيان أكتب له الرسائل والقصائد وأسرد حكاياتنا القديمة. لقد كانت وسيلة ألقي فيها كل الأسى على الورقة البيضاء، أحياناً كنت أعيد قراءة ما كتبته و كان هذا يساعدني على المضي قدماً."

الأدب كالفنّ، يعرّي الإنسان، ويفضح هشاشته فهو ينقل لنا التجربة الخالصة بدون غربلة. موضوع الفقد تم تناوله في كثير من الروايات والقصص والقصائد حيث جسّدت معنى الشعور بالأسى والحزن و الانكسار. إنها تعبّر عن إنسانية البشر بصدق وشفافية فتلامس القلوب المنكسرة، وتفضح هشاشة وضعف البشر. هي في الحقيقة قد لا تقدم حلولًا عملية ولن تشفي جراحنا: لكنها تلامس شغاف قلوبنا، وتساعدنا على فهم مشاعرنا بشكل أفضل، كما تُشعرنا بنوع من الراحة والأمان.

وهنا أستذكر ما كان يردده الفنان فان جوخ "الفن يواسي من كسرتهم الحياة".

في حفظ الله

٥٩٤ مشاهدةتعليقان (٢)

أحدث منشورات

عرض الكل
bottom of page