بقلم أنس بن حسين
هكذا هي الحياة.. هي عبارة فرنسية مشهورة بل أصبحت الأشهر حتى بين الإنجليز أنفسهم. فبحسب قاموس (اربان ديكشناري) وهو القاموس المختص بالعبارات العامية الإنجليزية، عبارة هكذا هي الحياة أضحت على لسان الإنجليز وكأنها عبارة إنجليزية صرفة.
أنا شخصياً أستخدم هذي العبارة كثير.. عمال على بطال.. غالباً من باب البرستيج.. لأن رنتها موسيقية على الإذن ومعناها قوي... أنا استخدمها كذلك كـ filler.. يعني حشوة كلام أو عبارة مبتذلة أملأ فيها صمت مزعج يكتنف جلستي مع شخص آخر..! لكن يظهر إن العبارة لا تروق لكل الناس.. فمرة قلتها لصديق عزيز.. وياليتني ما قلتها..!
خليني أرجع من البداية، كنت جالس مع صديق عزيز.. واضح إن كان يعاني من مشكلة، وبدأ يشتكي لي من هذه المشكلة.. في عز شكواه، استجمعت برستيجي وقررت أكون إيجابي شوية وقلت له: (سي لا في)..! صديقي فتح عيونه على مصراعيها.. تطاير منهما الشرار وكأنه لحام أكسجين..! وجهه الأحمر ونبرته المرتعدة والمرعبة في نفس الوقت فاجأتني.. سألني: إيش قصدك بـ (سي لا في)؟ توقعت إنه يبغى مني ترجمة للعبارة.. فرديت عليه ببراءة.. (سي لا في) معناها هذي هي الحياة..! للأسف زاد غضبه، وبدأت ثورة عارمة في كلام وملامح وتصرفات صديقي... أقدر أسميها ثورة شك وغضب..!
بعد ما مر وقت على هذه الحادثة.. عملت ريفليكشن على الحوار.. بدأت اتذكره وأحلل كلامي واكتشفت شي حبيت أشارككم إياه.. ثورة صديقي كان وراها خطأين أنا عملتهم.. خطأً في التقدير وخطأ في التعبير..! خطأ التقدير إني اعتقد صديقي يريد مني المداخلة.. وخطأ التعبير في عدم شرحي لعبارة (Ce La vie)..
نعم أنا أخطأت في تقدير الشي الي كان يبغاه صديقي.. كل ما كان يحتاجه هو شخص يستمع له بشكل جيد.! بصراحة، كنت أعتقد وقتها إني استمعت بشكل جيد.. لكن الحقيقة لا.. أنا كنت فقط أسمع بشكل جيد.. فرق بين السماع والاستماع.. خذها قاعدة، إحنا كبشر، ترتفع أصواتنا على بعض مو عشاننا نعاني من مشكلة في حاسة السماع.. بل نعاني من مشكلة في حاسة الاستماع..! وهناك فرق.. خلونا نشوف ماهي حاسة الاستماع..!
الاستماع الجيد هو أن توقف المعركة الي داخل عقلك.. عقلك مشغول بمليون فكرة وفكرة، تشغلك عن الاستماع للشخص الي أمامك..! مثلاً، مشكلتك مع أحد أفراد عائلتك، نتيجة مبارة فريقك المفضل، درجة امتحانك.. أي هم من هموم الدنيا.. إنت في نقاش عقلي مستمر وصوت عالي يمنعك من أن تعطي الاهتمام الكافي للمتحدث معك..! مشغول بالهموم وآخر همك هذا الشخص الماثل أمامك الي قاعد يكلمك.. شيء مزعج.. لكن خلونا نشوف الأكثر إزعاجاً..!
أحياناً تبذل جهد مضاعف وتحاول قدر الإمكان التركيز مع المتحدث... جهدك مشكور.. لكن وبكل أسف أنت لا تزال في معركة مع الأفكار داخل عقلك.. لكن المعركة هذي المرة ما هي مع همومك.. بل معركة تحليل كلام صديقك..! إنت مانت قاعد تسمع حق الاستماع، بل قاعد تلقط كلام صديقك وتنشغل بتحليل هذا الكلام تفكيكه إثباته أو نفيه ..! إنت مشغول عن صديقك المتحدث بمحاولة تجهيز حكم نهائي على كلامه..! لا تغلط غلطتي وتمارس دور القاضي وتنشغل عن صديقك الإنسان وتسم بدنه في وسط كلامه بعارة زي (سي لا في) لأن هذا ماهو إنصات ولا استماع حقيقي..!
نعم.. للأسف هذا ما هو استماع حقيقي..! الاستماع الحقيقي أو بالأصح الإنصات.. هو أن تترك مساحة كافية للشخص الي امامك أن يكون..! فضي له بلوكه كاملة داخل عقلك فضي له مساحة كبيرة في عقلك لأن يكون .. نعم أتركه أن يكون.. أن يعبر أن يحس بأنك تسمعه بكل جوارحك، إن كلامه وصل من القلب للقلب.. وليس من فم إلى عقل مفكر.. الاستماع الجيد هو حوار ما بين روحين، بين قلبين يحس كل طرف بالآخر.. هو ليس حوار بين عقلين مفكرين.. بل بين روحين.. روح شاكية متحدثة وروح مصغية متفهمة..!
لو جبت لي مسألة رياضية أو فيزيائية وسألتني عنها، على طول، راح أفعل لك عقلي المفكر ويبدأ الحوار بين عقلين مفكرين محللين.. لكن مشاكلنا العاطفية والإنسانية تحتاج قلوب وأرواح..! العلاقات الإنسانية لا تبنى على المنطق والعقلانية.. لذلك غلطتي مع صديقي إني لم أترك له مساحة ليكون بأن يعبر عن نفسه.. ولم أترك لنفسي مساحة بأن أكون.. بأن أخلي راسي من الأفكار واستمع..! غلطتي الأولى باختصار هي غلطة تقدير.. تقدير ما يجب أن أفعله وقتها..!
الغلطة الثانية الي ارتكبتها مع صديقي كانت غلطة تعبير.. الرجل فهم (سي لا في).. وكأني أقول له لا بد أن تستسلم للحياة.. لأن الحياة كذا..! بينما أنا لم أقصد الإستسلام.. بل القبول..! أو.acceptance! .. نخلط عادة بين كلمة استسلام للوضع الراهن وبين القبول بالوضع الراهن... القبول الي أقصده هو القبول الصحيح.. وهو التوقف عن مقاومة حقيقة حاصلة في حياتك..! توقف عن إنكار الحقيقة الي تعيشها.. توقف عن إنكار المشكلة الي تواجهك وإقبل الحقيقة كما هي..
مقاومة الحقيقة.. مقاومة وجود مشكلة حصلت لك ..هو خطأ كبير..! هل يوجد شيء أكثر تعذيباً لنا من أن نقاوم في دواخلنا شيء حاصل فعلاً؟ هل تتخيل حجم الطاقة المهدرة والجهد العصبي وأنت تقاوم وتنكر شيء حاصل فعلاً؟ هل تعرف اخطر شي في مقاومة الوضع الراهن وعدم القبول به كحقيقة؟ إن المشكلة الي قاعد تنكرها ستظهر لك كصداع مزمن في كل دقيقة من حياتك..! ستتنكر لك في تسعين زي جديد..! وتنكد عليك كل يوم في هيئة جديدة..!
إنكار المشكلة سيء جداً.. الشواهد حولك راح تذكرك كل يوم بالمشكلة.. حترجع تستعيد كل مشاعر الضيق والتوتر كل يوم.. حتظهر لك الحقيقة الي رافض أن تقبلها.. وتستفزك يوميا.!. بإنكارك لو مشكلتك مثلاً إن سيارتك إنصدمت.. وإنت تحاول أن تنسى هذه الحقيقة.. أو قاومتها.. للأسف أبشرك إنت راح تشوف الصدمة كل يوم.. سيسأل عن سبب الحدث كل شخص تقابله.. سيذكرك الناس بما تنكره كل يوم..! ستعيش في سلبية نفسية وعقلية ليل نهار والسبب، أنك لم تقبل بالوضع الراهن.!
قبول الوضع الراهن هو أول خطوة لتغيره..! والأسباب كثيرة.. أولاً، القبول حيوصلك لمرحلة هدوء نفسي وعصبي.. إنت متوافق مع المشكلة الي حصلت، معترف بها، راضي بحقيقة حصولها.. إذن لا يوجد صراع داخلي ينكر الحقيقة. ثانياً: القبول بحقيقة يعني إنك ستنطلق للحل من بيانات حقيقة وصحيحة.. من نقطة فشل إلى عالم الحلول.. ثالثاً: بدل من صرف طاقتك في الغضب، إصرف طاقتك للحل..!
تخيل إنك رجلك غرزت في بركة من الطين.. مستحيل شخص طبيعي ينكر هذي الحقيقة.. وغلط شخص عاقل يصرف طاقته في الامتعاض وقول جملة "أنا المفروض ما أكون هنا..!" قبولك للمشكلة حيساعدك ما تضيع طاقتك في الزعل، وتحتفظ بها للحل وهو الخروج من البركة..! طبق هذا المثال على كل مجالات حياتك..!
الفكرة في النهاية إني أخطأت في التقدير والتعبير.. الاستماع الجيد والقبول الجيد سيجتثون دراما الإنسان من جذورها..! دراما الصراع مع الناس ودراما الصراع داخلنا..!
Comments