top of page

كلمة خلفها كلام..!

تاريخ التحديث: ٢ ديسمبر ٢٠١٨

بقلم أنس بن حسين


كيف يمكن صنع نصيحة أو توجيه معين بطريقة غير مباشرة؟.. قبل أسبوع، وجدت إجابة لهذا السؤال.. وجدته في قصة نظرة..! قصة نظرة هي قصة قصيرة كتبها يوسف إدريس.. القصة القصيرة هي قصة مكثفة، قليلة الحوار قليلة التوصيف..! تعبر عن حدث خاطف عادة, قصتنا اليوم تناولت لمحة خاطفة جداً من مشهد أمام الكاتب.. لمحة لطفلة صغيرة في الشارع، واضح إنها كانت تعمل خادمة في أحد البيوت..

نعم القصة فقط كانت نظرة لم تأخذ من الكاتب أكثر من دقائق لكن يوسف ادريس أبدع في توصيف وتفصيل هذه النظرة. بدأ قائلاً:

"كان غريباً أن تسأل طفلة صغيرة مثلها إنسانا كبيرا مثلي لا تعرفه، في بساطة وبراءة أن يعدل من وضع ما تحمله، وكان ما تحمله معقداً حقاً.. ففوق رأسها تستقر "صينية بطاطس بالفرن". وفوق هذه الصينية الصغيرة يستوي حوض، قد انزلق رغم قبضتها الدقيقة التي استماتت عليه حتى أصبح ما تحمله كله مهددا بالسقوط"


الطفلة التي تعاطف معها يوسف إدريس ترمز لأي طفل عامل في البلدان الفقيرة. طفلة تحمل فوق رأسها صينية وفوق الصينية صحن كبير عليه خبز طازج..! المنطق يقول أن الصحن الكبير مكانه بالأسفل و من فوقه الصينية الصغيرة.. لكن يبدو إن الطفلة كانت تعلم ما سيحصل لها لو أفسدت الخبز الطازج. وكأنها أمرت أمراً بأن تترتب الحمولة بهذا الشكل حتى لو كان ذلك يستلزم منها القبض بيد من حديد على هذه الحمولة المرعبة..! يوسف إدريس كان دقيقاً في كل أوصافه وتعبيراته في هذه القصة.. قصة كل كلمة خلفها كلام كثير.!

وصف يوسف إدريس الطفلة بصفات متعددة لكن كل صفة كانت تمثل سيرة حياتها. نجتزئ من القصة كلام يوسف إدريس عن منظر الطفلة وهي تقطع الشارع:

"لم أحول عيني عنها وهي تخترق الشارع العريض المزدحم بالسيارات، ولا عن ثوبها القديم الواسع المهلهل الذي يشبه قطعة القماش التي ينظف بها الفرن.. أو حتى عن رجليها اللتين كانتا تطلان من ذيله الممزق كمسمارين رفيعين. راقبتها في عجب وهي تنشب قدميها العاريتين، كمخالب الكتكوت في الأرض، وتهتز وهي تتحرك ثم تنظر هنا وهناك بالفتحات الصغيرة الداكنة السوداء في وجهها، وتخطو خطوات ثابتة قليلة وقد تتمايل بعض الشيء ولكنها سرعان ما تستأنف المضي. راقبتها طويلا حتى امتصتني كل دقيقة من حركاتها فقد كنت أتوقع في كل ثانية أن تحدث الكارثة."

يوسف إدريس حشد كل قدراته اللغوية وكثف جمله لتقدم لنا وجبة إرشاد متكرر في كل سطر، عرض قضية ضخمة في قصة مكثفة قصيرة.. لننتبه لهذه الطفلة العاملة.. أو الشغالة،والتي لم تكتمل ملامح وجهها لأنه وصف عيونها بأنها فتحات ضيقة داكنة وسوداء.. لم تكتمل استدارة عيناها بسبب صغر سنها.. لكن الغير عادي هي تلك النظرة الي ألقتها الشغالة في آخر القصة.. نظرة طفل حُرم من اللعب..! حُرم من عالمه الطبيعي وفطرته.. من يراها يعتقد بأنها عاملة محترفة، لأنها تحمل كل هذا الحمل برشاقة وخفة.. في نفس الوقت تكاد تسقط حملها لأن جسمها لا يمتلك القدرة الكافية..! الطفلة عقلياً تحولت لمحترفة شقاء.. لكن بدنياً ونفسا لازالت طفلة..! نجتزئ مقطع من القصة لحظة حصول هذه النظرة الي أثارت كل القصة:

"أما هي فكانت واقفة في ثبات تتفرج، وجهها المنكمش الأسمر يتابع كرة المطاط يتقاذفها أطفال في مثل حجمها وأكبر منها ولم تلحظني، ولم تتوقف كثيراً فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها وقبل أن تنحرف استدارت على مهل واستدار الحمل معها، وألقت على الكرة والأطفال نظرة طويلة،،، ثم ابتلعتها الحارة."

الدعوة بالقصة.. هذا ما خطر على بالي بعد ملاحظة الأثر الي تركته قصة نظرة علي وعلى قراءها.. يوسف إدريس لم يزودنا بفعل أمر واحد.. بل استخدم التوصيف وترك أفعال الأمر تحدث داخل عقولنا ونحن نقلب هذه الأوصاف داخل عقولنا.. وصف لبس الفتاة، وجهها، رجلينها، نظراتها.. استخدم لغة مركزة وواعية، استخدم كنايات رائعة عشان يوصل لنا رسالته..مثلاً حمل وكررها أكثر من مرة عشان يلفت نظرنا لحمل البنت المعنوي والجسدي.. استخدام كلمة مخالب ليوضح وقبضة دقيقة ليصف حرصها على عدم سقوط أغراضها..


النصيحة ثقيلة.. الأدب يحولها لنسمة لطيفة.. كان بإمكان يوسف إدريس أن يصرخ بعلو صوته "يا ظلمة.. استغليتم الأطفال، أنهكتوهم، قتلتوا طفولتهم وحرمتوهم من عالمهم.. كان بإمكانه وبإمكانه وبإمكانه.. يوسف إدريس لم يطالبك بشيء أبداً في القصة.. لم يستخدم فعل أمر واحد.. بل ترك الطفلة تمشي وتتحرك وتنظر.. وترك لنا الإنفعال مع الأحداث.. يوسف إدريس عاقبنا كلنا بكلام غاية في القسوة من غير أن يواجهنا مباشرة.. هذا الشيء ظاهر في عبارة عبقرية جداً استخدمها لما طلبت منه البنت في تعديل صينية البطاطس الحارة فوق راسها. فقال:

"وأخيراً .. نجحت في تثبيت الحمل"..

نعم.. أنا وأنت وانتِ نجحنا في تثبيت هذا الحمل على رأس الفتاة.... لم نحاول إرجاعها لعالمها الطفولي الطبيعي والذي تنتمي إليه، بل ثبتنا الحمل على رأسها وتركناها لتبتلعها الحارة.. يبتلعها الوحش .. وحش الواقع الذي سكتنا عنه..! فعلاً، كل كلمة في هذه القصة، خلفها كلام كثير..!

٢٦٢ مشاهدة٠ تعليق
bottom of page